فصل: تفسير الآية رقم (81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا الجنين كان صغيرًا في بدء تكوينه، ثم صار وزنه غالبًا ثلاثة كيلو جرام في يوم ولادته، وبين بدء تكوينه إلى لحظة ميلاده هناك فترة زمنية ينمو فيها هذا الجنين تدريجيًا، وبشكل انسيابي، فهو لا يزيد في الوزن كل ساعة، بل ينمو في كل جزء من المليون من الثانية بمقدار يناسب هذا الجزء من الثانية، وهذا يعني أن الجنين ينمو انسيابيا بما يناسب الزمن.
نلحظ ذلك أيضًا في أثناء التدريب على رياضة حمل الأثقال أنهم لا يدربون اللاعب الناشئ على حمل مائة كيلو جرام من أول مرة بل يدربونه على حمل عشرين كيلو جرامًا في البداية، ثم يزاد الحمل تباعًا بما لا يجعل حامل الأثقال في عنت، ويسمون ذلك: انسياب التدريب؛ لأن حمل هذه الأثقال يحتاج إلى تعود، ولهذا لا يتم تدريبه على حمل الأثقال فجأة، بل بانسياب بحيث لا يدرك الزمن مع الحركة، كذلك النمو، فأنت إذا نظرت إلى طفلك الوليد ساعة تلده أمه، وسأقدر جدلًا أنك ظللت تنظر إليه دائمًا، فهو لا يكبر في نظرك أبدًا؛ لأنه ينمو بطريقة غير محسوسة لديك، لكنك لو غبت شهرًا عنه وتعود لرؤيته ستدرك نموه، وهذا النمو الزائد قد تجمع في الزمن الفاصل بين آخر مرة رأيته فيها قبل غيابك وأول مرة تراه بعد عودتك.
ومن لطف الله- إذن- في الحمل أن الجنين ينمو انسيابيًا، ولذلك يزداد الرحم كل يوم من بدء الحمل إلى آخر يوم فيه، وترى الأم الحامل، وهي تسير بوهن وتبطئ في حركتها، ثم يأتي الميلاد مصحوبًا بمتاعب الولادة وآلامها، وبعد أن يولد المولود تستقبله رعاية أمه وأبيه، ويأخذ سنوات إلى أن يبلغ الرشد. ونعلم أن أطول الأجناس طفولة هو الإنسان، ولذلك نجد الأب الذي يريد الإنجاب يتحمل مع الأم متاعب التربية، وقد قرن الله هذا الأمر بشهوة، وهي أعنف شهوة تأتي من الإِنسان، وبعد ميلاد الطفل نجد المرأة تقول: لن أحمل مرة أخرى، ولكنها تحمل بعد ذلك.
إذن كأن الشهوة هي الطُعم الموضوع في المصيدة ليأتي بالصيد وهو الإِنجاب؛ لذلك قرن الحق الإِنجاب بالشهوة لنقبل عليها، وبعد أن نقبل عليها، ونتورط فيها نتوفر ونبذل الجهد لنربي الأولاد. فإذا أنت عزلت هذه الشهوة عن الإِنجاب والامتداد تكون قد أخللت وملت عن سنة الكون، لأنك ستأخذ اللذة بدون الإِنجاب، وإذا تعطل الإِنجاب تعطلت خلافة الأرض، والشيء الآخر أن الرجل في الجماع يلعب دور الفاعل، وفي الشذوذ وهو العملية المضادة التي فعلها قوم لوط ينقلب الرجل إلى منفعل بعد أن كان فاعلًا. {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80].
والفاحشة هي العملية الجنسية الشاذة، ولم يحددها سبحانه من البداية كدليل على أنها أمر معلوم بالفطرة، فساعة يقول: {أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} يعرفون ما فعلوا. وإن افترضنا أن هناك أغبياء أو من يدعون الغباء ويرفضون الفهم، فقد جاء بعدها بالقول الواضح: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ...}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة} القصة.
في نصب {لُوطًا} وجهان:
أحدهما: أنه منصوب بـ {أرْسَلْنَا} الأوَّلِ، و{إذ} ظرف الإرسال.
والثاني: أنَّهُ منصوبٌ بإضمار {اذْكُرْ}، وفي العامل في الظرف حينئذ وجهان:
أحدهما- وهو قول الزمخشريِّ أنَّهُ بدلٌ من {لوطًا} قال: بمعنى: واذكر وقت إذ قال لقومه وهذا على تسليم تصرف {إذ}.
والثاني: أنَّ العامل فيها مُقَدَّرٌ تقديره: واذْكُرْ رسالةَ لُوط إذْ قَالَ فإذ مصوبة برسالة.
قاله أبُو البقاء، والبدل حينئذٍ بدل اشتمال.
وصرّف نوح ولوط لخفَّتِه، فإنَّهُ ساكنُ الوسط، مركب من ثلاثة أحرف.، لُطْتُ الحوض إذا ملسته بالطين، وهذا غلط؛ لأنَّ الأسماء الأعجميّة لا تشتق كإسْحَاق، فلا يقال: إنه من السُّحق وهو البعد؛ وإنَّمَا صرف لخفته؛ لأنَّه على ثلاثة أحْرُف ساكن الوسط، فأمَّا لطتُ الحوضَ، وهذا أليط فصحيح، ولكن الاسم أعجميّ كإبراهيم وإسحاق.
وهو: لوطُ بْنُ هَاران بْنِ تَارخ ابْنِ أخير إبراهيم، كان في أرض بابل مع عمه إبراهيم، فهاجر إلى الشَّام، فنزل إبراهيمُ إلى فلسطين، وأنزل لوطًا الأردن، فأرسله اللَّهُ عز وجل إلى أهل سَدُوم.
قوله: {أتأتُونَ الفَاحِشَة} أتفعلون السيئة المتناهية في القبح، وذكرها باسم الفاحشة ليبين أنَّها زنا لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32].
{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنَّهَا مستأنفة لا محلَّ لها من الإعرابِ، وعلى الاستئناف يحتمل أن تكون جوابًا لسؤال وألا تكون جوابًا.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟
قلت: لا مَحَلَّ لها لأنَّها مُسْتَأنفة، أنكر عليهم أوّلًا بقوله: {أتَأتُونَ الفَاحِشَةَ} ثُمَّ وبخهم عليها فقال: أنتم أوَّلُ من عملها.
أو تكون جوابًا لسؤال مقدَّر، كأنَّهُم قالوا: لِمَ لا تأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحَدٌ؛ فلا تفعلوا ما لم تُسْبَقُوا به وعلى هذا فتكون صفة للفاحشة، كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وقال الشَّاعِر: [الكامل]
وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّني

والباء في {بِهَا} فيها وجهان:
أظهرهما أنها حالية، أي: ما سبقكم أحدٌ مصاحبًا لها أي: ملتبسًا بها.
والثاني: أنَّها للتعدية.
قال الزمخشريُّ: الباءُ للتعدية من قولك: سَبَقْته بالكُرة إذا ضربتها قبله.
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «سَبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ».
قال أبو حيان: والتّعدية هنا قلقة جدًّا؛ لأنَّ الباء المعدِّية في الفعل المتعدي لواحد هي بجعل المفعولِ الأوَّلِ يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة، وبيان ذلك أنَّك إذا قلت: صَكَكْتُ الحجرَ بالحَجر كان معناه: أصْكَكْت الحجرَ بالحجر أي: جَعَلْت الحجر يَصُكُّ الحجر، فكذلك: دفعت زيدًا بعمرو عن خالد، معناه: أدْفَعْتُ زيدًا عمرًا عن خالد أي جعلت زيدًا يدفع عمرًا عن خالد فللمفعول الأوَّل تأثير في الثَّاني ولا يصحُّ هذا المعنى هنا؛ إذْ لا يصحُّ أن يقدَّر: أسْبَقْتُ زيدًا الكرة أي: جعلت زَيْدًا يسبق الكَرَةَ غلا بمجاز متكلَّف، وهو أن تجعل ضربك للكرةِ أول جَعْل ضربة قد سقبها أي: تقدَّمها في الزمان فلم يجتمعا.
و{مِنْ} الأولى لتأكيد استغراق النفي والثانية للتبعيض.
والوجه الثاني من وجهي الجملة: أنَّها حال، وفي صاحبها وجهان:
والثاني: هو المفعول أي: أتأتونها مُبْتَدَأ بها غير مسبوقة من غيركم.
قال عمرو بن دينار: ما يراد ذكر على ذكر في الدُّنيا حتى كان قوم لوط. اهـ.

.تفسير الآية رقم (81):

قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أبهم الفاحشة ليحصل التشوف إلى معرفتها، عينها في استفهام آخر كالأول في إنكاره وتوبيخه ليكون أدل على تناهي الزجر عنها فقال: {إنكم لتأتون الرجال} أي تغشونهم غشيان النساء؛ ولما أبقى للتشوف مجالًا، عين بقوله: {شهوة} أي مشتهين، أو لأجل الشهوة، لا حامل لكم على ذلك إلا الشهوة كالبهائم التي لا داعي لها من جهة العقل وصرح بقوله: {من دون النساء} فلما لم يدع لبسًا، وكان هذا ربما أوهم إقامة عذر لهم في عدم وجدان النساء أو عدم كفايتهن لهم، أضرب عنه بقوله: {بل أنتم قوم}.
ولما كان مقصود هذه السورة الإنذار كان الأليق به الإسراف الذي هو غاية الجهل المذكور في سورة النمل فقال: {مسرفون} أي لم يحملكم على ذلك ضرورة لشهوة تدعونها، بل اعتياد المجاوزة للحدود، ولم يسم قوم لوط في سورة من السور كما سميت عاد وثمود وغيرهم صونًا للكلام عن تسميتهم، وأما قوم نوح فإنما لم يسموا لعدم تفرق القبائل إذ ذاك، فكانوا لذلك جميع أهل الأرض ولذا عمهم الغرق- والله أعلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}.
فيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ نافع وحفص عن عاصم {إنكم} بكسر الألف ومذهب نافع أن يكتفي بالاستفهام بالأولى من الثاني في كل القرآن.
وقرأ ابن كثير {أئنكم} بهمزة غير ممدودة وبين الثانية، وقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة بالتخفيف، وبين الثانية.
والباقون بهمزتين على الأصل.
قال الواحدي: من استفهم كان هذا استفهامًا معناه الإنكار لقوله: {أتأتون الفاحشة} [الأعراف: 80] وكل واحد من الاستفهامين جملة مستقلة لا تحتاج في تمامها إلى شيء.
المسألة الثانية:
قوله: {شهوة} مصدر.
قال أبو زيد شهي يشهي شهوة وانتصابها على المصدر، لأن قوله: {أتأتون الرجال} معناه أتشتهون شهوة؟ وإن شئت قلت إنها مصدر وقع موقع الحال.
المسألة الثالثة:
في بيان الوجوه الموجبة لقبح هذا العمل.
اعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع، فلا حاجة فيه إلى تعديد الوجوه على التفصيل ثم نقول موجبات القبح فيه كثيرة: أولها: أن أكثر الناس يحترزون عن حصول الولد، لأن حصوله يحمل الإنسان على طلب المال وإتعاب النفس في الكسب، إلا أنه تعالى جعل الوقاع سببًا لحصول اللذة العظيمة، حتى أن الإنسان بطلب تلك اللذة يقدم على الوقاع، وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى، وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع، فوضع اللذة في الوقاع، كشبه الإنسان الذي وضع الفخ لبعض الحيوانات، فإنه لابد وأن يضع في ذلك الفخ شيئًا يشتهيه ذلك الحيوان حتى يصير سببًا لوقوعه في ذلك الفخ، فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ، والمقصود منه إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع.
إذا ثبت هذا فنقول: لو تمكن الإنسان من تحصيل تلك اللذة بطريق لا تفضي إلى الولد، لم تحصل الحكمة المطلوبة، ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل، وذلك على خلاف حكم الله، فوجب الحكم بتحريمه قطعًا، حتى تحصل تلك اللذة بالطريق المفضي إلى الولد.
والوجه الثاني: وهو أن الذكورة مظنة الفعل، والأنوثة مظنة الانفعال، فإذا صار الذكر منفعلًا، والأنثى فاعلًا، كان ذلك على خلاف مقتضى الطبيعة، وعلى عكس الحكمة الإلهية.
والوجه الثالث: الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهيمة، وإذا كان الاشتغال بالشهوة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة، فليكن قضاء الشهوة من المرأة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة، وهو حصول الولد وإبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع فأما قضاء الشهوة من الذكر فإنه لا يفيد إلا مجرد قضاء الشهوة، فكان ذلك تشبهًا بالبهائم، وخروجًا عن الغريزة الإنسانية، فكان في غاية القبح.